[center]تحرير القدس
قال ابن شداد: لما تسلم صلاح الدين عسقلان والاماكن المحيطة بالقدس شمر عن ساق الجد
والاجتهاد في قصد القدس المبارك واجتمعت اليه العساكر التي كانت متفرقة في الساحل فسار
نحوه معتمدا على الله تعالى مفوضا امره اليه منتهزا الفرصة في فتح باب الخير الذي حث
على انتهازه بقوله من فتح له باب خير فلينتهزه فانه لا يعلم متى يغلق دونه وكان نزوله
عليه في يوم الاحد الخامس عشر من رجب سنة 583هـ وكان نزوله بالجانب الغربي وكان معه من
كان مشحونا بالمقاتلة من الخيالة والرجالة وحزر اهل الخبرة ممن كان معه من كان فيه من
المقاتلة فكانوا يزيدون على ستين الفا خارجا عن النساء والصبيان ثم انتقل لمصلحة راها
الى الجانب الشمالي في يوم الجمعة العشرين من رجب ونصب المناجيق وضايق البلد بالزحف
والقتال حتى اخذ النقب في السور مما يلي وادي جهنم ولما راى اعداء الله الصليبيون ما
نزل بهم من الامر الذي لا مدفع له عنهم وظهرت لهم امارات فتح المدينة وظهور المسلمين
عليهم وكان قد اشتد روعهم لما جرى على ابطالهم وحماتهم من القتل والاسر وعلى حصونهم من
التخريب والهدم وتحققوا انهم صائرون الى ما صار اولئك اليه فاستكانوا واخلدوا الى طلب
الامان واستقرت الامور بالمراسلة من الطائفتين وكان تسلمه في يوم الجمعة السابع
والعشرين من رجب وليلته كانت ليلة المعراج المنصوص عليها في القران الكريم فانظر الى
هذا الاتفاق العجيب كيف يسر الله تعالى عوده الى المسلمين في مثل زمان الاسراء بنبيهم
وهذه علامة قبول هذه الطاعة من الله تعالى وكان فتحه عظيما شهده من اهل العلم خلق ومن
ارباب الخرق والزهد عالم وذلك ان الناس لما بلغهم ما يسره الله تعالى على يده من فتوح
الساحل وقصده القدس قصده العلماء من مصر والشام بحيث لم يتخلف احد منهم وارتفعت
الاصوات بالضجيج بالدعاء والتهليل والتكبير وصليت فيه الجمعة يوم فتحه وخطب القاضي
محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن الزكي.
وقد كتب عماد الدين الاصبهاني رسالة في فتح القدس،وجمع كتابا سماه الفتح القسي في
الفتح القدسي وهو في مجلدين ذكر فيه جميع ما جرى في هذه الواقعة.
وكان قد حضر الرشيد ابو محمد عبد الرحمن بن بدر بن الحسن بن مفرج النابلسي الشاعر
المشهور هذا الفتح فانشد السلطان صلاح الدين قصيدته التي اولها:
هذا الذي كانت الامال تنتظر فليوف لله اقوام بما نذروا
وهي طويلة تزيد على مائة بيت يمدحه ويهنيه بالفتح.
يقول بهاء الدين بن شداد في السيرة الصلاحية: نكس الصليب الذي كان على قبة الصخرة وكان
شكلا عظيما ونصر الله الاسلام على يده نصرا عزيزا ، وكان الافرنج قد استولوا على القدس
سنة 492هـ ولم يزل بايديهم حتى استنقذه منهم صلاح الدين، وكانت قاعدة الصلح انهم قطعوا
على انفسهم عن كل رجل عشرين دينارا وعن كل امراة خمسة دنانير صورية وعن كل صغير ذكر او
انثى دينارا واحدا فمن احضر قطيعته نجا بنفسه والا اخذ اسيرا وافرج عمن كان بالقدس من
اسرى المسلمين وكانوا خلقا عظيما واقام به يجمع الاموال ويفرقها على الامراء والرجال
ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه وتقدم بايصال من قام بقطيعته الى
مامنه وهي مدينة صور ولم يرحل عنه ومعه من المال الذي جبي له شيء وكان يقارب مائتي الف
دينار وعشرين الفا وكان رحيله عنه يوم الجمعة الخامس والعشرين من شعبان من سنة 583هـ
--------------------------------------------------------------------------------
حصار صور
يقول بن شداد: لما فتح صلاح الدين القدس حسن عنده قصد صور وعلم انه ان اخر امرها ربما
عسر عليه فسار نحوها حتى اتى عكا فنزل عليها ونظر في امورها ثم رحل عنها متوجها الى
صور في يوم الجمعة خامس شهر رمضان من السنة(583) فنزل قريبا منها وسير لاحضار الات
القتال ولما تكاملت عنده نزل عليها في ثاني عشر الشهر المذكور وقاتلها وضايقها قتالا
عظيما واستدعى اسطول مصر فكان يقاتلها في البر والبحر ثم سير من حاصر هونين فسلمت في
الثالث والعشرين من شوال من السنة، ثم خرج اسطول صور في الليل فهاجم اسطول المسلمين
واخذوا المقدم والريس وخمس قطع للمسلمين وقتلوا خلقا كثيرا من رجال المسلمين وذلك في
السابع والعشرين من الشهر المذكور وعظم ذلك على السلطان وضاق صدره وكان الشتاء قد هجم
وتراكمت الامطار وامتنع الناس من القتال لكثرة الامطار فجمع الامراء واستشارهم فيما
يفعل فاشاروا عليه بالرحيل لتستريح الرجال ويجتمعوا للقتال فرحل عنها وحملوا من الات
الحصار ما امكن واحرقوا الباقي الذي عجزوا عن حمله لكثرة الوحل والمطر وكان رحيله يوم
الاحد ثاني ذي القعدة من السنة وتفرقت العساكر واعطى كل طائفة منها دستورا وسار كل قوم
الى بلادهم واقام هو مع جماعة من خواصه بمدينة عكا الى ان دخلت سنة 584هـ
ثم نزل على كوكب في اوائل المحرم من السنة ولم يبق معه من العسكر الا القليل وكان حصنا
حصينا وفيه الرجال والاقوات فعلم انه لا يؤخذ الا بقتال شديد فرجع الى دمشق، واقام
بدمشق خمسة ايام. ثم بلغه ان الافرنج قصدوا جبيل واغتالوها فخرج مسرعا وكان قد سير
يستدعي العساكر من جميع المواضع وسار يطلب جبيل فلما عرف الافرنج بخروجه كفوا عن ذلك.
--------------------------------------------------------------------------------
بقية فتوح الشام
قال ابن شداد في السيرة: لما كان يوم الجمعة رابع جمادى الاولى من سنة 584هـ دخل
السلطان بلاد العدو على تعبية حسنة ورتب الاطلاب وسارت الميمنة اولا ومقدمها عماد
الدين زنكي والقلب في الوسط والميسرة في الاخير ومقدمها مظفر الدين ابن زين الدين فوصل
الى انطرسوس ضاحي نهار الاحد سادس جمادى الاولى فوقف قبالتها ينظر اليها لان قصده كان
جبلة فاستهان بامرها وعزم على قتالها فسير من رد الميمنة وامرها بالنزول على جانب
البحر والميسرة على الجانب الاخر ونزل هو موضعه والعساكر محدقة بها من البحر الى البحر
وهي مدينة راكبة على البحر ولها برجان كالقلعتين فركبوا وقاربوا البلد وزحفوا واشتد
القتال وباغتوها فما استتم نصب الخيام حتى صعد المسلمون سورها واخذوها بالسيف وغنم
المسلمون جميع من بها وما بها واحرق البلد و اقام عليها الى رابع عشر جمادى الاولى
وسلم احد البرجين الى مظفر الدين فما زال يحاربه حتى اخربه واجتمع به ولده الملك
الظاهر لانه كان قد طلبه فجاءه في عسكر عظيم، ثم سار يريد جبلة وكان وصوله اليها في
ثاني عشر جمادى الاولى وما استتم نزول العسكر عليها حتى اخذ البلد وكان فيه مسلمون
مقيمون وقاض يحكم بينهم وقوتلت القلعة قتالا شديدا ثم سلمت بالامان في يوم السبت تاسع
عشر جمادى الاولى من السنة واقام عليها الى الثالث والعشرين منه، ثم سار عنها الى
اللاذقية وكان نزوله عليها يوم الخميس الرابع والعشرين من جمادى الاولى وهو بلد مليح
خفيف على القلب غير مسور وله ميناء مشهور وله قلعتان متصلتان على تل يشرف على البلد
واشتد القتال الى اخر النهار فاخذ البلد دون القلعتين وغنم الناس منه غنيمة عظيمة لانه
كان بلد التجار وجدوا في امر القلعتين بالقتال والنقوب حتى بلغ طول النقب ستين ذراعا
وعرضه اربعة اذرع فلما راى اهل القلعتين الغلبة لاذوا بطلب الامان وذلك في عشية يوم
الجمعة الخامس والعشرين من الشهر والتمسوا الصلح على سلامة نفوسهم وزراريهم ونسائهم
واموالهم ما خلا الذخائر والسلاح والات الحرب فاجابهم الى ذلك ورفع العلم الاسلامي
عليها يوم السبت واقام عليها الى يوم الاحد السابع والعشرين من جمادى الاولى فرحل عنها
الى صهيون فنزل عليها يوم الثلاثاء التاسع والعشرين من الشهر واجتهد في القتال فاخذ
البلد يوم الجمعة ثاني جمادى الاخرة ثم تقدموا الى القلعة وصدقوا القتال فلما عاينوا
الهلاك طلبوا الامان فاجابهم اليه بحيث يؤخذ من الرجل عشرة دنانير ومن المراة خمسة
دنانير ومن كل صغير ديناران الذكر والانثى سواء و اقام السلطان بهذه الجهة حتى اخذ عدة
قلاع منها بلاطنس وغيرها من الحصون المنيعة المتعلقة بصهيون، ثم رحل عنها واتى بكاس
وهي قلعة حصينة على العاصي ولها نهر يخرج من تحتها وكان النزول عليها يوم الثلاثاء
سادس جمادى الاخرة وقاتلوها قتالا شديدا الى يوم الجمعة تاسع الشهر ثم يسر الله فتحها
عنوة فقتل اكثر من بها واسر الباقون وغنم المسلمون جميع ما كان فيها ولها قليعة تسمى
الشغر وهي في غاية المنعة يعبر اليها منها بجسر وليس عليها طريق فسلطت المناجيق عليها
من جميع الجوانب وراوا انهم لا ناصر لهم فطلبوا الامان وذلك يوم الثلاثاء ثالث عشر
الشهر ثم سالوا المهلة ثلاثة ايام فامهلوا وكان تمام فتحها وصعود العلم السلطاني على
قلعتها يوم الجمعة سادس عشر الشهر.
ثم سار الى برزية وهي من الحصون المنيعة في غاية القوة يضرب بها المثل في بلاد الافرنج
تحيط بها اودية من جميع جوانبها وعلوها خمسمائة ونيف وسبعون ذراعا وكان نزوله عليها
يوم السبت الرابع والعشرين من الشهر ثم اخذها عنوة يوم الثلاثاء السابع والعشرين منه.
ثم سار الى دربساك فنزل عليها يوم الجمعة ثامن رجب وهي قلعة منيعة وقاتلها قتالا شديدا
ورقي العلم الاسلامي عليها يوم الجمعة الثاني والعشرين من رجب واعطاها الامير علم
الدين سليمان بن جندر وسار عنها بكرة يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر.
ونزل على بغراس وهي قلعة حصينة بالقرب من انطاكية وقاتلها مقاتلة شديدة وصعد العلم
الاسلامي عليها في ثاني شعبان وراسله اهل انطاكية في طلب الصلح فصالحهم لشدة ضجر
العسكر من البيكار وكان الصلح معهم لا غير على ان يطلقوا كل اسير عندهم والصلح الى
سبعة اشهر فان جاءهم من ينصرهم و سلموا البلد.
ثم رحل السلطان فساله ولده الملك الظاهر صاحب حلب ان يجتاز به فاجابه الى ذلك فوصل حلب
في حادي عشر شعبان اقام بالقلعة ثلاثة ايام وولده يقوم بالضيافة حق القيام، وسار من
حلب فاعترضه تقي الدين عمر ابن اخيه واصعده الى قلعة حماة وصنع له طعاما واحضر له
سماعا من جنس ما تعمل الصوفية وبات فيها ليلة واحدة واعطاه جبلة واللاذقية، وسار على
طريق بعلبك ودخل دمشق قبل شهر رمضان بايام يسيرة، ثم سار في اوائل شهر رمضان يريد صفد
فنزل عليها ولم يزل القتال حتى تسلمها بالامان في رابع عشر شوال.
ثم سار الى كوكب وضايقوها وقاتلوها مقاتلة شديدة والامطار متواترة والوحول متضاعفة
والرياح عاصفة والعدو متسلط بعلو مكانه فلما تيقنوا انهم ماخوذون طلبوا الامان فاجابهم
اليه وتسلمها منهم في منتصف ذي القعدة من السنة.